تُحَيرنِي التَّجمُّعات البشريَّة، ويحيِّرني تأْثيرهَا على مَجرَى حَياتِنا.
فَطَبيعَةُ تَأثِيرِ الجماعةِ البشريَّةِ أَضعَاف تِلْك اَلتِي يَتَأثَّر بِهَا
الشَّخْص فِي مَعزِل عَنهُم. فَبمُجرد أن تَتَعانَق أَفكَار المجْموعة البشريَّة
معًا حَتَّى تَبدَأ الأفْكار تَدُور فِي عُقُول الجمِيع بِنَفس الطَّريقة اَلتِي
يَتِم بَثهَا. بل وتتضاعفُ بِقوَّةِ الرَّوابطِ بَيْن أَفرَاد الجماعة الواحدة إِذ
أصْبحوا مُرْتبطين - لَا اراديًا - فِكْريًّا وشعوريًّا.
فالشُّعور بِالرِّضَا نَحْو شَيْءٍ مَا يتشكَّلُ من شُعُورِ المجْموعةِ،
ولَا يَستطِيعُ أحدٌ بشكلِ مباشرٍ تَفسِيرَ السَّببَ اَلذِي جَعلَه يَحمِل ذَلِك
الشُّعور. والْفكْرة اَلتِي كَانَت مَرفُوضة لَدى بَعضهِم أَصبَحت مَقبُولة
لِمجرَّد أنَّ التَّجَمُّع قد قبْلهَا. فَبشُعورٍ لَا إِرادي يتقبَّلهَا المرْءُ
ويبْدأ فِي إِقنَاع ذَاتِه وَكَأنمَا لَم يَرفُضها قطٌّ. حَتَّى لَو كان يَرفُضها
فِي مَواقِف أُخرَى خَارِج نِطَاق تَأثِير تِلْك المجْموعة.
كَيْف يَحكُم الشَّخْصُ على نَفسِهِ ويراجعُ ذَاتَه بَعْد أن أَصبَح عَقلُه
خاضعًا لِكلِّ مَا يَبُثه التَّجَمُّع اَلفكْرِي فِي عَقلِه وَروْحِه! فَفِي تِلْك
الحالة يُصْبِح العقْلُ الباطنُ أسيرًا لِتأْثِير تشابكهم. فَفِي كُلِّ لَحظَة
يُرَاجِع فِيهَا نَفسَه يَتَبادَر إِلى عَقلِه اللَّاواعي مَا قَالَه الأشْخاص الَّذين
يَتَأثَّر بِهم. ويسْكر فِي الشُّعور اَلذِي حَملُوه معًا إِلى أفْكارهم.
قد يعترض ذلك التوجه البعْضُ مِمَّن لم يمَتزِجُ مع نشْوَة المجموعة فيصبِح
غريبًا. بل وعجبُه يزيد لأَنه إِذَا تَحدَّث إِلى أيِّ شَخْصٍ مِنْهم فَكَأنمَا
يَتَحدَّثُ إِلى الكيَان الخَفِي لِلْمجْموعة نَفسِه مَهمَا اختلَف الشَّخْص
المتحدِّث. فالْكلُّ يَتكلم بنَفْس العبارات. ويتصَرَّفُ نَفْسَ التَّصرُّفاتِ. بل
وقد يتَطوَّر الأمرُ إِلى اصدارِ نَفْس رُدُود الأفْعال لَدى المواقف.
بِالطَّبْع هنا سيَتِم اِعتِبارَ إِعلَان رَفْض الانْسياق لِأفْكَار
المجْموعة بِالْجمود اَلفكْرِيِّ وَرفَض التَّغَيير. لَكِن مَا اَلذِي يُحدِّد إِن
كانَ التَّغَيُّرُ هذَا حقًا نَوْع مِن التَّطَوُّر والتجديد أم هُو دَرْب مِن
دُرُوب الانْحدار؟ كَيْف نَمنَع أَنفُسنا مِن الانْسياقِ خَلْفَ المظاهرِ
الخدَّاعةِ! وَخلَّف الأشْياء الغريبة! لِمجرَّد أَنهَا غَرِيبَة أو جَدِيدَة. وكيْف
نُميِّز الصَّوَاب من الْخَطأ! وَكَّل ذَلِك نِسْبِي. كَيْف نُحدِّد اَلمُطلق مِن
اَلنسْبِي لِمَا يَحكُم حَيَاتنَا! كَيْف لَا يمْنعنَا اِنْتماؤنَا لِفكْرةٍ
مُعَينَةٍ جَمَعتنَا فِي مَكَانٍ مَا مِن التَّأَثُّر بِالنَّواتج السَّلْبيَّة
لِتلْك التَّجمُّعات!! مَا اَلذِي سنضحَّى بِه؟ مَا الفكْرة اَلتِي سَنؤمِن بِهَا؟
مَا اَلتِي سنتخَلَّى عَنهَا؟ ومَا اَلتِي سيزيد إِيماننَا بِهَا؟
فِي النِّهاية
لَا يَستطِيعُ أيَّ اِمْرِئٍ مِنَّا اَلهُروب مِن ذَلِك الأسْرِ اَلفكْرِيِّ
والرُّوحيِّ والنَّفْسيِّ. فَمِن مِنَّا لَيْس أسير فِكْرَةٍ مَا! شُعُورٍ مَا!
رَغبَةٍ مَا! فَإِن هُويَّتَنَا تَتَحدَّدُ عن طريق تِلْك الأفْكار والْمشاعر. نُحَملهَا
وتحمُّلنَا فِي نَفْس الوقْتِ لِدَربٍ مَا. لَا يعْلمه سِوى اَللَّه
ومن المؤكَّدِ أنَّ الانْعزالَ فِي بَعْضِ الأوْقاتِ ضَرورِيٌّ جِدًّا
لِمراجعة الذَّات ومراجعة كُلِّ التَّغيُّرات اَللَّي يُواجهُها الفرْد.
ومقارنة سَابِق اَلْحال بِحاضِره.
عسى أن يهْدينَا اَللَّه لِمَا فِيه الخيْر