يَشتدُّ اِضْطرابً القلبِ عِنْدمَا يَجُول فِي الخَاطِر اَلكثِير مِن المشاعرَ المتناقضةِ؛ بعْضُهَا مِمَّا تُمْلِيه
عليْه أفْكارُه الدَّفينة، والْبَعْض الآخر مِمَّا يُشاهِده فِي حَياتِه
اليوْميَّة.
مَا بَيْن النَّهَار اَلذِي قضيَّته فِي
فُندُق هِيلْتون لِحضور حدث مَا، وبيْن سَفرِي لِمنْزل أَهلِي رأيْتَ مِصْر. مِصْر
بِمتناقضاتهَا، بِعجائبهَا، بِغرائبهَا، اَلتِي لِلْأسف أَصبَحت لَا تُثير إِلَّا
الاشْمئْزاز.
تَناقُض الأحْوال.. تَناقُض الظُّروف.. بَعْضٌ
قد نشأ فِي رَفاهِية لَا يَعلَم طَعْم اَلجُوع أو المرض، والْبَعْض الآخر لَا
يَعلَم طَعْم الرَّاحة. البعْض يَقْلَق مِن عدم شِرائه أَحدَث مَا نزل بِالسُّوق،
والْبَعْض يَرجُو اَلخَلق حَتَّى يشْتروا مِنْه بِضاعة لَا طَائِل مِنهَا سِوى
سدِّ أَفوَاهٍ وَبطُونٍ اِشْتدَّتْ نُحولًا وتقرُّحًا مِن عدم تَناسُق مَا تَحْتاج
ومَا يأْتيهَا مِن غِذَاء.
بِالطَّبْع لَا أَتحَدث هُنَا عن حُضُور الحدث،
فقد كان مُعْظمه مِن الطُّلَّاب، فِي الغالب مِن المسْتوى الاجتماعي المتوسط.
لَيْس بِفاحشِ الثَّرَاءِ ولَا بِشديد الفَقْر، لَكِن ذَلِك اَلمزِيج أيْضًا
يَحمِل فِي طَياتِه اَلكثِيرَ والْكثيرَ مِن أَمرَاض المجْتمع اَلأُخرى؛
كالتَّملُّقِ، والتَّفاخرِ، والْإسْرافِ فِي القوْل وَالفِعل مِمَّا لَا جَدوَى
فِيه. لَكنَّه لَيْس مَجَال اَلحدِيث الآن.
إِلَّا أنَّ أَكثَر مَا قد أَحدَث جَلبَة فِي
صَدرِي هُو أنَّ طَبقَة البسطاء قد فَقدَت مُعظَم مَا قد تُوحي تِلْك اَلكلِمة
بِأيِّ حال مِن الأحْوال. أعتقَد أنَّ أَصلَها جاء مِن البساطة فِي كُلِّ شَيْءٍ
مِن مَظاهِرَ الحيَاةِ. إلا أن مَا نُوَاجِه الآن هُو أنَّ البساطة قد اِنْحصَرتْ
على العائد المادِّيِّ فقط، لَكِن مَا دُون ذَلِك فَهُو مُعقَّد شديد التَّعْقيد.
حَتَّى رُؤيَة البعْض مِن الطَّبقات اَلتِي
يُسَمون أَنفُسهم بِالطَّبقة "الرَّاقية" تثيرُ الاشمئزازِ حقًا. فلَا
يَحمِل مُعْظمهم مِن اَلرقِي سِوى رَقَّى المسْتوى المعيشيُّ. لَكِن مَا أصابَهم
مِن أَمرَاضٍ نَفسِيةٍ وَعقلِيةٍ يَفُوق مَلايِين المرَّات مَا قد يُوحي بِه حالهم
مِن اَلنعِيم والرَّفاهية.
لِلْأسف اِنْتشَرتْ فِي الفتْرة الأخيرة تِلْك
العباراتُ البغيضةُ مِثْل "مَا أَجمَل سَعادَة البسطاء"، أو "ضِحْكَة
اَلبسِيط أَجمَل مَا فِي الكوْن". وَهُم يتجاهلون مَا تَحمِل تِلْك الضِّحْكة
مِن مَلايِين المشاعر المفْعمة بِالتَّعاسة والْحسْرة، بِالْجوع والْأَلم،
بِالتِّيه والاضْطهاد.
وَفِي ظِلِّ تفْكيري هذَا شاهدتْ جُمُوع
المسافرين تطير مِن الفرْحة عِنْدمَا اِرتفَع صَوْت التِّلْفازِ بِهَدفٍ فِي
مُبارَاةٍ مُهمَّةٍ. وانْقسمتْ جُمُوع الحاضرين فِي حالهَا لِأقْسَام؛ البعْض
يَتَلذَّذ بِالْفرْحة اَلتِي نزْعته مِن آلام اِنْتظاره لِمجيء القطَار، والْبَعْض
زَادَه الهدف آلامًا على آلامِه، والْبَعْض لَا يَدرِي مَا اَلذِي يَحدُث ولَا
يَهتَم لِذَلك، فَيكفِيه ما يعانيه من صِرَاع الحيَاة والدُّيون والْمسْؤوليَّات.
وَأظَل تائهًا فِي الحيَاةِ لِئَلا أَكُونَ
مَطحُونًا فِي الحيَاة لِهَذه الدَّرَجة. ولَا أُحِب أن أَكُون مِن زُمرَة
الرَّاقييْنِ فِي هذَا المجْتمع التعِس، ولَا أَعلَم، هل لِيَ الاخْتيار فِي ذَلِك،
أم سأتحَوَّر دُون أنَّ أَدرَى إلى مسخٍ آخر، وقد لَا أَدرَك ذَلِك إِلَّا بَعْد
فَوَات اَلْأَوان!
فمهْمَا بذلْنَا مِن اَلجُهد والتَّخْطيط،
فلَا سبيل أن نُدْرِك صِحَّة أو خطأ مَا نفْعله سَوَّى بِالسَّعْي والتَّوْفيق مِن
اَللَّه.
ولَا نَعلَم مَا قد تَجلِبه لنا الأقْدار،،،