تربَّى مُعظمَنا منذُ صِغَرِهِم على اعدادِ
أنفسِهم لمواجهةِ العالمِ، لذا تعلّمَوا كيفَ يبنون الحواجزَ بينَهم وبينَ ما قد
يضرُّهم من العالمِ حولهم. لكنهم للأسفِ لم يتعلموا كيف يبنون الحواجزَ التي تحمىَ
العالمَ من أذاهُم المحتملِ.
تتشكل حياتُنا من مجموعةٍ كبيرةٍ من جدرانٍ
وأبوابٍ في متاهةٍ كبيرةٍ. قد علم اللهُ ما ستؤول إليه أقدارُنا، لكننا على الرغم
من ذلك لدينا الاختيارُ المطلقُ في اختيارِ الطرقِ والأبوابِ التي سنقوم بفتحها
والأُخرى التي سنُغلقها.
بالرَّغم من ذلك كله فإننا لدينا الاختيارُ.
نعم.. لدينا العقلُ والضميرُ اللذان لديهما القدرةُ على التمييزِ حقاً بينَ الحقِّ
والباطلِ. أتتذكرُ تلكَ اللحظةِ التي شعرتَ فيها بشعورٍ غريبٍ في أعمقِ نقطةٍ في
قلبِك حين واجهتكَ مشكلةٌ ما؟ ذلك الشعورُ الذي دفعَك لوهلةٍ ما لقرارٍ تعلَمُ
يقينًا أنه الصوابُ، لكن تلك الحدود التي رسمتَها لنفسِك هي التي تجعلُك تختارَ
الباطلَ، وتُقنِعُ نفسَك بأسبابٍ واهيةٍ أنك على حقٍ لكذا وكذا، بالرغمِ من ذلكَ
الشعورِ الدفينِ الذي يخبرُك بأن ثمَّةَ شيءٌ ما ليس على ما يرام، وأنك لستَ على
الطريقِ الحقِّ.
علمني والدي منذ صِغرى بعضَ القواعدَ الذهبيةِ.
أولها أنني إنْ فعلت شيئًا فلأفعله "للهِ"، وعلمني أيضًا "بياضَ
القلبِ" وأنه مهما أخطأَ الانسانُ ومهما ابتعدَ عن الصوابِ فيجبُ أن يظلًّ
القلبُ أبيضاً لا يتمنى الشر لأحد، حتى يستنَّ لشعاعِ الضوءِ القادمِ من
الاختباراتِ الالهيةِ أن ينيرَ ما قد اظلمتْهُ الحياةُ. فطالما حيينا بتلك القاعدة
في فعلِ الخيرِ للهِ وفى نقاءِ القلبِ، فلا نقلقُ على شيٍ أبدًا، مهما تقلبَتُ
الدنيا ومهما تبعثرت الأوراقُ. وعلمني أيضًا أن لكلِ نفسٍ نقطةً تتجلى فيها
معاييرُ الصوابِ والخطأِ لتنبّئَ الذاتَ بالحقِ، تظهرُ في الاختبارات. وإما نختارُ
أن نستمعُ إليها أم لا. وذلك يعود لنقاء السريرة نفسها.
للأسفِ الشديدِ، في محاولاتِ فعلِ الخيرِ نفتح
أبوابَ قلوبِنا على مصراعيها لاحتواءِ ما قد لوثَه العالمُ بغبارِه فيصيبَنا بعضُ
الغبارِ، حسنٌ.. ليس كلَ ذلك الغبار سيءٌ، فالذي يطرِفُ عينَك لوهلهٍ سيجعلَك في
أشدِّ الحذرِ من مصدرِه مستقبلاً. لكنه في وقتٍ ما سيجعلُك مترددًا في استمرارِ
فتح تلك الأبوابِ فتضطرُ آسفًا لاغلاقها. يتولَّدُ إثرَ ذلك ضجيجًا ليس بالمحمود
أثرَه.
سنواجهُ فى تلك الأثناءِ أبوابًا أُخرى تتفتحُ،
ليس لنا في مجرياتِ أمورِها من شيٍ. نجدُها تتفتحُ وتتيسرُ وكأنها تجرى وفقَ خططٍ
محكمةٍ لا نعلمُ عنها شيئًا، سوى أنّها كانت تنتمي لأحلامٍ ورديةٍ في سرابِ العقلِ
كنا نظنُّها بعيدةَ المنالِ.
كمْ أعشقُ التخطيطَ، كمْ أعشقُ المعادلاتِ
المتغيرةَ في مجرى أُمورِ حياتِنا ومصائِرَنا، لكنني وكلى عجبٌ استمتعُ بما يهبُنا
الله في أثناءِ مسيرةِ حياتِنا بما يقلبُ موازينَ أُمورِ الخططِ الرتيبةِ التائهةِ
التي كنا نظنُّها برًّاقةً إلى ما قد يقلبُ حياتَنا رأساً على عقبِ، لطرق جديدة لم
نكن نعى بوجودَها.
ونتفاجأ بجهلِ خططِنا المحكمةِ كما كنا نظن..
لم أكن أعلمُ أنَّ الحياةَ بتلك التعقيدِ، كنت
أظنُّ أنَّ الدنيا ستواجُهك بالأسلوبِ ذاتِهِ الذي تتبعه أنت معها، لكنها لا تفهم
ذلك أبدًا. فلكلٍ منّا مقدارٌ من المصاعب لا بد وأن نلعقَ مُرَّها. لكننا في
أثناءِ ذلك سنجدُ ما قد يهوِّن علينا مرارَ العيش ويبدل أوجاعَنا آمالاً تعيد إلى
روحِنا الثباتَ والصبرَ.
اللهم ارزقنا الثباتَ على الحقِّ..
اللهم ارزقنا الصبرَ..
____________________
مصدر الصورة: Unsplash